الدور الثالث: عصر التدوين وبروز المذاهب الإسلامية

 

عصر تدوين السنة والفقه، وظهور كبار الأَئِمَّة المعترف لهم بالزعامة.

أوائل القرن الثاني حين غياب الدولة الأُمَوِيَّة، وإشراق شمس الدولة العَـبَّاسِيَّة، إلى منتصق ق4ه.

 

- المذهب الحنفي:

ينسب المذهب الحنفيُّ إلى أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي التيميِّ بالولاء. عاش ما بين سنتي 80 و150هـ. نشأ في الكوفة وإليها ينسب. أخذ العلم عن علمائها من التابعين الميالين إلى الرأي المقلِّين من الرواية.

ترك أبو حنيفة تلاميذ مشاهير ليسوا أقلَّ شهرة منه، أصَّلوا منهجه بصفة عَامَّة. أهمُّهم

 أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (113 - 182هـ)،

وزفر بن الهذيل بن قيس الكوفي (110 -185هـ)

ومحمَّد بن الحسن الشيباني (131 -189هـ).

يعدُّ الأحناف أكثر المذاهب انتشارا، نظرا لكونه المذهب الرسميَّ عند العَبـَّاسيِّين في أغلب فتراتهم، وعند العثمانيِّين في كُلِّ تاريخها.

 - المذهب المالكي:

يعود هذا المذهب كما هو بيِّنٌ من نسبته إلى مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي (93 - 179هـ)، وهو من أهل المدينة ولم يغادرها. تلقَّى العلم عن التابعين الذين استقرُّوا بها. يطغى على منهجه الفقهيِّ طابع الرواية. اشتهر عنه الأخذ بعمل أهل المدينة الذي يتميَّز به عن غيره من الأَئمَّة الفقهاء. سار على منهج الإمام مالك تلاميذه:

عبد الرحمن بن القاسم (128 - 191هـ)،

وأبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي (125 -197هـ)،

 وأشهب بن عبد العزيز القيسي العامري (140 - 204هـ)،

وأسد بن الفرات النيسابوري التونسي  (ت: 213هـ)،

وعبد السلام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون (160 - 240هـ).

انحسر أتباعه عن المشرق الإِسلاَمِيِّ، وبقي في إفريقيا الشمالية بصفة خَاصَّة.

 - المذهب الشافعي:

ينسب هذا المذهب إلى أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ( 150- 204هـ). ولد في غزَّة، ونشأ في مَكَّة وتعلَّم بها، ثمَّ انتقل إلى المدينة، فأخذ العلم عن الإمام مالك، ثمَّ عمل باليمن، ومنها انتقل إلى العراق حيث تلقَّى علم أهلها على يد محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وأثناء إقامته بها ألَّف بعض الكتب التي ضمَّنها بعض آرائه الفِقْهِيَّة، فصارت تُعرف فيما بعد بمذهب الشافعيِّ القديم. ومن العراق سافر إلى مصر سنة 200هـ، فدرَّس بها واشتهر بها مذهبه، فألَّف أشهر كتبه وَأَوَّلَ كِتَاب متخصص في أصول الفقه، وهو «الرسالة»، وكذا كِتَاب «الأم»، حيث رجع فيه عن بعض أقواله، فصارت آراؤه بمصر تُعرف بالمذهب الجديد للشافعي. من تلاميذه:

أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي([1]) (ت: 231هـ)،

وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى (175 - 264هـ)

والربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي ( 174 - 270هـ).

كان المذهب الشافعيُّ المذهب الرسميَّ للدولة الأيُّوبيَّة بمصر، لِذَلِكَ انتشر بها كثيرا، وهو المذهب الغالب في أندونيسيا واليمن.

 - المذهب الحنبلي:

ينسب هذا الاتجاه الفقهيُّ إلى المحدِّث أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني (164 - 241هـ) من أهل بغداد. رحل إِلىَ بلاد كثيرة طلبا للعلم، وأخذ عن رجال عصره كسفيان بن عيينة والشافعيِّ. اشتهر بعنايته بالحديث النبويِّ. وكانت قضيَّة خلق القرآن دعاية كبيرة له. من تلاميذه المباشرين

أبو يعقوب إسحاق التميمي المروزى (ت: 251هـ)،

وأبو بكر أحمد بن محمد بن هاني الخراساني الملقَّب بالأثرم (ت: 273هـ).

وبعد أن كاد ينقرض المذهب أحياه الإمام ابن تيمية (ت: 728هـ)، وتلميذه ابن القيِّم الجوزيَّة (ت: 751هـ)،

 ثُمَّ جدِّد أَيضًا عَلَى يد محَمَّد بن عبد الوَهَّاب (ت: 1226هـ)، وبفضل الأخير صار المذهب الحنبليُّ هو المذهب الرسميَّ في السعوديَّة.

- المذهب الإباضي([2]):

«كان الإمام جابر بن زيد التابعي الجليل، وأحد أشهر تلاميذ ابن عباس، هو الذي أرسى القواعد الأولى لهذا الفقه الذي سيتطور على يد تلاميذه وتلاميذهم من بعده؛ إذ يعود إليهم الفضل في نشره وتدوينه والسير على نهجه التشريعي». وقد مَرَّ بنا جانب من حياة المُؤَسِّس الإمام جابر بن زيد.

ويعتبر الإِبَاضِيَّة من أَوَّل المذاهب تدوينا، فقد ألَّف الإمام جابر ديوانه، وعبد الرحمن بن رستم تفسيره، وكلاهما ضاعا. وحفظت لنا الأَيـَّام مسند الربيع بن حبيب، ومدوَّنة أبي غانم بشر بن غانم الخراساني، وَكُلُّ أولئك كانوا قبل نهاية القرن الثاني الهجري، أي قبل أَئِمَّة الحديث كأحمد والبخاري ومسلم.

- المذهب الشيعي([3]):

أَمَّا الفقه الشيعيُّ فيمثِّله الإماميَّة الجعفريَّة والزيديَّة. والفقه الشيعيُّ مُؤَسَّسٌ عَلَى القول بعصمة الأَئِمَّة، وَأَنَّ عليًّا هو وصيُّ رَسُول اللهِ ص ، وقد أفضى إِلَيْهِ بظاهر الشريعة وخافيها، وهو كَذَلِكَ أفضى بها إِلىَ مَن خَلَفَه في الإمامة؛ لذَلِكَ كانت عندهم أقوال الأَئِمَّة كنصوص الشارع، فهي لا تُنال بالاجتهاد والرأي، وَإِنَّمَا تُنال من قِبل المعصوم. من أهمِّ كتبهم المعتمدة في الحديث: «الكافي» في علوم الدين للكلِّيـني، به أكثر من سِتَّة عشر ألف حديث رويت عن آل البيت.

وتعود أصول الزيدية إلى زيد بن عليٍّ (زين العابدين) ابن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (80-122هـ) الذي ألَّف أقدم كِتَاب في الفقه، وهو «المجموع». لهم أتباع في طبرستان وبلاد اليمن. ويعرف عنهم كثرة العلماء المجتهدين. وهم أقرب إِلىَ المعتزلة في العقائد([4]).

وتعود أصول الجعفريَّة إلى أبي عبد الله جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين المعروف بجعفر الصادق (80 - 148هـ)، من سادات أهل البيت. لقِّب بالصادق لصدقه في مقالته. روى عنه مالك بن أنس وأبو حنيفة وكثير من علماء المدينة. وهو وأبوه أبو جعفر محَمَّد الباقر هما اللذان يدور عَلَيْهِمَا فقه الشيعة الإماميَّة.

 

- المذاهب المندثرة أو المنقرضة:

«يوجب علينا الوفاء العلميُّ ـ ونحن في صدد الحديث عن الاتجاهات الفِقْهِيَّة المختلفة ـ أن نعطي ملخَّصا عن فضل وعمل مجتهدين كان لهم أثر كبير في الفقه الإسلاميِّ، لا ينتمون إلى واحد من المذاهب المذكورة آنفا، وَإِنَّمَا كانوا أنفسهم أَئِمَّة لمذاهب مستقلَّة، لم يكتب لها الانتشار كما كتب لغيرها، لأسباب عِدَّة: سِيَاسِيَّة وغير سِيَاسِيَّة. فمنهم من آثر البعد عن السلطان، فحرم نفسه الشهرة والإعلام الرسميَّ، ومنهم من انعزل عن الناس فلم يلتفَّ حوله التلاميذ والأتباع، أو كانت النظرة الخَاصَّة لبعضهم في التفريع والاستنباط مختلفة عَمَّا كان مألوفا بين الفقهاء، ومنهم من ظهر على الساحة الفِقْهِيَّة مُتَأَخِّرًا زمنيًّا بعد أن توزَّع انتماء الأُمَّة إلى المدارس التي سبق ذكرها. وقد حكمنا على هؤلاء بتلك المكانة من خلال ما وَصَلَنَا من مُؤَلَّفَاتهم الفِقْهِيَّة، أو من خلال الروايات المنسوبة إليهم، والنقول التي حوتها كتب غيرهم. ونذكر من هؤلاء وبالترتيب التاريخيِّ:

1- مذهب الأوزاعيِّ أبي عمرو عبد الرحمن بن محمد (88 - 157هـ). حدَّث عن عطاء بن أبي رباح، والزهريِّ وكبار المحدِّثين. انتشر مذهبه في الشام والأندلس، ثُمَّ تراجع أمام المذهبين الشافعيِّ والمالكيِّ.

2- مذهب الثوريِّ المنسوب لأبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوريِّ الكوفي (97 - 161هـ).

3- المذهب الظاهريُّ، نسبة لأبي سليمان داود بن عليِّ بن خلف الأصبهاني (202 - 270هـ). أخذ عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور. نشأ المذهب وعاش في العراق. تقلَّص في المشرق وفقد الأتباع، حَـتَّى جاء القرن الخامس فتبنَّاه ابن حزم (384- 456هـ) وبعثه في الأندلس، فألَّف فيه كتب الأصول والفروع، من أهمِّها: الإحكام في أصول الأحكام، في أصول الفقه، والمحلَّى في الفروع الفِقْهِيَّة.

4- مذهب الإمام الطبريِّ، نسبة للعالم الموسوعي [المفسِّر، المؤرِّخ] أبي جعفر محَمَّد بن جرير الطبري (224-310هـ)».

 


الدور الرابع: تلاميذ مؤسسي المذاهب الإسلامية إلى ظهور مجلة الأحكام العدلية([5])

 

أسباب ظهور التقليد وانتشاره ([6]) :

                   1-الدعاية القَوِيَّة التي قام بها أنصار المذاهب المتَّـبَعة، فملكت شغاف القلوب، وصار من لم يأخذ بها مبتدعا. وَمِمَّا ساعدهم عَلَى ذَلِكَ اتِّصَال بعض العلماء بالخلفاء والوزراء والأغنياء، ما جعل هَؤُلاَءِ يُسهمون في نشر تلك المذاهب بشتَّى الوسائل. ومن تلك الوسائل: تعيين مناصب الإفتاء والقضاء وفق المذهب الرسمي للدولة. ومنها: تخصيص أوقاف في التعليم لأتباع مذهب مُعَيـَّن، وإنشاء المدارس وحصر التدريس فيها عَلَى مذهب دون آخر، وقد لا يتسنَّى للشيخ المدرِّس الاجتهادُ ومخالفة المذهب المقرَّر خوفا من انقطاع راتبه([7]).

                   2-ضعف الثقة بالقضاة، فقد كانوا قبل هَذَا الدور موثوقا بهم، إذ يُختارون من ذوي العلم والتقى والزهد والورع، ومن القادرين عَلَى الاستنباط من كِتَاب الله وسنَّة رسوله. أَمَّا في هَذَا العصر فقد ساءت حالهم، وظهر الجور، وشاعت الرِّشَا، فكانوا يتخيَّرون من أقوال المفتين ما يوافق أطماعهم وأهواءهم؛ فتزعزعت ثقة الناس بهم. ودرءًا لهذا الفساد، صار أهل كُلِّ قطر يختارون قاضيهم من أهل مذهبهم لا يحيد عنه في أحكامه.

                   3-تدوين المذاهب كان سببا في نجاحها وانتشارها وبقائها، وسببا في الاستغناء عن تكلُّف البحث من جديد، إذ كان التدوين مُقرِّبا لتناولها. ألاَ ترى إِلىَ اندراس مذاهب كبار الصحابة والتابعين ـ عَلَى كثرتها وعظم شأنها ـ بخلاف للمذاهب الباقية إِلىَ الآن؟ وما ذاك إِلاَّ لأَنـَّهَا لم تسعد بالتدوين. قال الشافعيُّ: كان الليث أفقه من مالك إِلاَّ أَنَّ أصحابه ضيَّعوه.

                   4-الغلوُّ في تعظيم الأَئِمَّة والتعصُّب لهم إِلىَ درجة التقديس، ولم يكن بَدْءُ الشرك في قوم نوح إِلاَّ بتقديس صالحيهم([8]). وَرُبـَّمَا قُدِّمت أقوالهم عَلَى النصوص الصريحة، متعلِّلين بِأَنَّ علماءنا السابقين أعلم مِنَّا بالنصوص، وَرُبـَّمَا اطَّلَعوا عَلَى ما لم نطَّلع عَلَيْهِ، وَرُبـَّمَا كان هَذَا منسوخا، أو لا يراد ظاهره. وهل كان هلاك أهل الكِتَاب إِلاَّ بترك شرع الله، واتباع أحبارهم في التحليل والتحريم ؟    
هَذَا الغلوُّ في التعظيم مِمَّا كبَّل العقول، فصار البعض يعتبر القول بغير آرائهم لا خروجا عن المذهب فحسب، بل خروجا عن الدين، فما بالك بالجرأة عَلَى معارضة أقوالهم وردِّها !!.

                   5-عدم اتِّـبَاع المنهج العلمي في التوثيق، ففي مُؤَلَّفَات هَذَا العصر خلطٌ كبير فيما ينقلونه من آراء السابقين وما ينسبونه إِلىَ أَئِمَّة المذاهب، وما يزعمونه من ترجيح الإمام لرأي عَلَى غيره، مع أَنـَّهُ بإمكانهم الرجوع إِلَيْهَا مباشرة، والتحقُّق من النقول.
        والأدهى من ذَلِكَ استدلالهم بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وعدم تحقيقهم في صحَّتها من مظانِّها، كُلُّ هَذَا من أجل الانتصار للمذهب، فيزاد في الحديث ويُنقص مِمَّا يُحيل المعنى أو يفسده؛ لأَنـَّهُ نَقَله من كِتَاب فقهيٍّ بما فيه من أخطاء، وَمِمَّن وقع في مثل هَذَا: الغزالي وأبو المعالي الجويني. وقد حاول المحدِّثون سدَّ هَذِهِ الثغرة بتخريج الْمُؤَلَّفَات الفِقْهِيَّة المشهورة، كما سنرى.

                   6-ضعف الدولة الإِسلاَمِيَّة، فالفقه كسائر العلوم والصنائع، يتأثر إيجابا وسلبا، باستقرار الدولة وَقُوَّتها، أو باضطرابها وضعفها، ثُمَّ سقوطها([9]).

                   7-شيوع الادَّعاء بأَنَّ كُلَّ مجتهد مصيب، فصار المفتون يأخذون بالرأي دون تمحيص، وَهَذَا مخالف للنصوص الشَّرعِيَّة، فالرَّسُول ص قال: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»([10])، فقد أثبت له الخطأ، إِلاَّ أَنـَّهُ مأجور عَلَى استفراغ وسعه في الاجتهاد([11]).

                   8-«تحاسُدُ العلماء قعد بكثير منهم عن أن يظهر بمظهر المجتهد، مخافة أن يكيد لَهُ علماء وقته ويرموه بالابتداع».

                   9-تزاحم الفقهاء وتجادلهم في الفتوى، فَكُلُّ من أفتى بِشَيْءٍ نوقض في فتواه، فلا ينقطع الجدال إِلاَّ بالوقوف عَلَى تصريحٍ من أحد الأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين.

                   10-الإفراط في الاختصار أضاع جُلَّ وقت المتعلِّم، وعاقه عن التكوين.

                   11-فساد نُظُم التعليم، واشتغال العلماء بما لا يتوقَّف عَلَيْهِ الاستنباط.

                   12-كثرة الْمُؤَلَّفَات كانت عائقة عن التحصيل، كما قال ابن خلدون.

                   13-فقدان الثقة في النفس، وفتور الهمم.

                   14-شغف الناس بالمادَّة، وانصراف هممهم إِلىَ جمع المال.

 

آثار التقليد :

                   1-ترك الاشتغال بعلوم الاجتهاد، والاقتصار عَلَى حفظ الأحكام، بدعوى غلق باب الاجتهاد.

                   2-محاربة المشتغلين بالاجتهاد([12])، واتهامهم بالابتداع، أَو أَنـَّهُم يريدون إنشاء مذاهب جديدة، أَو أَنـَّهُم خالفوا الإجماع، فمنهم من سُجن كابن تيمية الذي مات سجينا، ومنهم من حوكم بتهمة الاجتهاد كجمال الدين القاسمي.

                   3-شيوع المناظرة لا بقصد الوصول إلى الحقِّ بل للانتصار للمذهب([13]).

                   4-تحوُّل التعصُّب المذهبيِّ إِلىَ عداوة وبغضاء، فكان لا يُصَلِّي بعضهم خلف بعض، ويسفِّه بعضهم أتباع الآخر... وَرُبـَّمَا بلغ الأمر إِلىَ إثارة فتن، وسفك دماء هنا وهناك، وحوادث التاريخ الكثيرة ـ مع الأسف ـ شاهدة عَلَى ذَلِكَ([14]).

                   5-تضييق أتباع المذاهب عَلَى أنفسهم في إطار أَئِمَّتهم، ومن المعلوم أَنـَّهُ لا يوجد مذهب أحاط بالإسلام كُلِّهِ. ونتج عن ذَلِكَ: عدم استفادة المسلمين من جهود بعضهم بَعْضًا، فيجد المفتي نفسه أحيانا في ضَيْق أمام النوازل، ظنًّا منه أَنَّ ما عند غير مذهبه باطل، فيصل الأمر إِلىَ الاقتباس من الشرائع الْوَضْعِيَّة، بينما الشريعة الإِسلاَمِيَّة بمختلف مذاهبها، مجال رحب لاستيعاب الحوادث.

                   6-الإغراق في الاشتغال بالفرضيات والمسائل التي لا يبنى عَلَيْهَا عمل، وقد يكون وقوعها مستحيلا، ودراستها مضيعة للوقت، ومثار للسخرية أحيانا؛ وَبِذَلِكَ ابتعد الفقه عن الحاجة العَمَلِيَّة والمصالح الزمنية([15]).

                   7-شيوع الجهل وَقِلَّة العلم، إذ صارت الأقوال المحدودة للعلماء هي المتَّبعة، ونُبذَ الأصلان غير المتناهيين: القرآن وَالسُّنـَّة.


التأليف في هَذَا الدور :

أ- مميزات التأليف من حيث الشكل:

1 - الاختصارات والشروح:

اشتغل الفقهاء باختصار مُؤَلَّفَات السابقين، وتفنَّنوا في ذَلِكَ، حَـتَّى كان الاختصار ـ أحيانا ـ ألغازا يصعب الوقوف عَلَى معانيها، مِمَّا يجعلها في حاجة إِلىَ الشرح أو التحشية. ولنضرب مثالا بالفقه المالكيِّ، فمدوَّنة الإمام مالك تقع في ثلاثة مُجَلَّدات، «اختصرها ابن أبي زيد القيرواني، ثُمَّ جاء البراذعيُّ فاختصر مختصر أبي زيد في كِتَاب سَمَّاهُ: “التهذيب”، ثُمَّ جاء أبو عمرو بن الحاجب فاختصر تهذيب البراذعي، ثُمَّ جاء خليل فاختصر مختصر ابن الحاجب، فبلغ غاية الاختصار؛ لأَنـَّهُ مختصرُ مختصرِ المختصرِ. فكان أقرب إِلىَ الألغاز فاحتاج إِلىَ شروح مطوَّلة. فشرحه الخُرشيُّ في سِتَّة أسفار، والزرقانيُّ في ثمانية، والرهوني في ثمانية، وغيرهم كثير».

ونتج عن هَذِهِ الأساليب في التأليف ما يلي:

- صار همُّ المطَّلع عَلَيْهَا أن يتفهَّم الأساليب، ويحصر جهده في حلِّ العبارات والتراكيب، فاشتغل الناس بالألفاظ عن لبِّ العلم وجوهره، وصار الوصول إِلَيْهِ مِمَّا يُكِدُّ الأذهان، ويميت المواهب والملكات.

- كان الهدف من الاختصار هو الاقتصاد في الزمن وتيسير الحفظ، إِلاَّ أَنَّ الوضع انعكس، فصارت الكتب الأَصلِيَّة أسهل تناولا من مختصراتها وأنفع.

- نظرا لصعوبة فهم بعض المتون صار طالب العلم يستغني بالحفظ دون فهم.

- الاهتمام بمثل هَذِهِ التآليف الْمُتَأَخِّرة العويصة صَرَفَ العلماء عن الكتب الْمُتَقَدِّمَة القيِّمة، التي تغذِّي الروح وتبعث الهمَّة، وتخرِّج الفقيه، لسهولة مأخذها، ووفائها بالغرض المقصود.

 

2- الترجيح بـين الآراء المختلفة في المذهب :

الترجيح عَلَى نوعين: من جهة الرواية، ومن جهة الدراية.

فَأَمَّا من جهة الرواية فَإِنَّ النقل عن الإمام قد يختلف، فيروى عنه أكثر من قول في المسألة الواحدة، وَهَذَا ناشئ عن أمور:

- تفاوت الضبط والتـثبُّت عند النقل من راوٍ لآخر.

- رجوع الإمام عن قوله الأَوَّل، فيروي بعض تلامذته قوله الأَوَّل، ويروي الآخرون القول الثاني.

- أن يكون أحد القولين مبنيًّا عَلَى القياس، والآخر عَلَى الاستحسان، فينقل كلُّ راوٍ ما سمع.

- أن يكون أحد القولين من جهة الحكم والثاني من جهة الاحتياط، فينقل كلٌّ ما سمع.

لهذا عمل العلماء عَلَى الترجيح بـين الروايات، «فرجَّح الْحَنَفِيَّة روايات محَمَّد بن الحسن عَلَى غيره... ورجَّحوا مِمَّا رواه محَمَّد كُتبه التي رواها عنه الثقات كأبي حفص الكبير والجوزجاني، وسمَّوها ظاهر الرواية. ورجَّح الشَّافِعِيَّة ما يرويه الربيع بن سليمان عَلَى ما يرويه حرملة والجرمي، وإذا تعارضت رواية الربيع مع رواية المزني قَدَّموا رواية الربيع مع اعترافهم بعلوِّ كعب المزني في الفقه، وترجيحه في ذَلِكَ عَلَى الربيع. ورجَّح الْمَالِكِيَّة رواية ابن القاسم عن مالك عَلَى سائر الروايات عنه، وقد يختلف النقل عن ابن القاسم فيرجِّحون روايات أشهب عَلَى روايات ابن عبد الحكم»([16]).

وَأَمَّا النوع الثاني من الترجيح من جهة الدراية، فَإِنَّهُ يكون بـين الروايات الثابتة عن الأَئِمَّة إذا اختلفت، وَهَذَا يحتاج إِلىَ ملكة فِقهِيَّة وخبرة تَامَّة بأصولهم وطرقهم في الاستنباط، فيرجِّحون ما يَـتَّفِقُ مع تلك الأصول والقواعد.

 

3 - الانتصار للمذاهب :

قام كُلُّ فريق من العلماء في هَذَا الدور بنصرة المذهب الذي يعتنقه، بشتَّى الوسائل، ومن مظاهر ذَلِكَ:

- الإكثار من الكتابة في مناقب الأَئِمَّة، علما وورعا وزهدا، وَقُوَّةً في الحجَّة، وتمسُّكا بِالكِتَابِ وَالسُّنـَّة.

- تتبُّع مواطن الخلاف وتصنيف الكتب فيها، وذكر أَدِلَّة كُلِّ فريق، وترجيح مذهب الإمام المقلَّد عَلَى كُلِّ حال؛ فجرَّهم ذَلِكَ إِلىَ تقرير أحكام قد تنبو عن قواعد الشريعة، واتَّهم بعضُ الفقهاء بَعْضًا بِأَنَّ أئمتهم خالفوا الكِتَاب وَالسُّنـَّة في بعض المسائل.

- التسابق في ميدان المناظرة والجدل، كلٌّ منهم يسوق حججه عَلَى صِحَّة مذاهبه. وفي مقام المناظرة يراعي الخصمان الترويج لجانبه، ومغالبة خصمه ومغالطته، دون مراعاة جانب الحقِّ([17])، خَاصَّةً إذا كانت المناظرة بمحضر الكبراء والأمراء.

جـ- نتائج هذه الطرق في التأليف:

- انقطاع الصلة بـين علماء الأمصار، فقد كانت الرحلات لطلب العلم كثيرة إِلىَ مختلف الأقطار، لتلقِّي مشافهةً من الأقطاب، ولا يخفى ما في ذَلِكَ من فوائد بمناقشتهم، ومدارستهم، فالتلقِّي ـ مقارنة بالمطالعة المجردة ـ يعتبر أشحذ للذهن، وأيقظ للفكر، وأقرب توصيلا للمراد، وأبعد عن الإبهام والإيهام والاحتمال، إذ يسهل عَلَى المتلقِّي الاستفسار عَمَّا يعزب عنه، وقد لا يحتاج إِلىَ دراسة للمصطلحات المختلفة باختلاف المؤلفين، والتي قد تأخذ منه وقتا طويلا([18]).

- كثرة التآليف كان سببا في الاشتباه والاختلاط، وتثبيط طالب العلم عن الاجتهاد والاستنباط. قال ابن خلدون: «اعلم أَنـَّهُ مِمَّا أضرَّ الناس في تحصيل العلم، والوقوف عَلَى غاياته: كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها، ثُمَّ مطالبة المُتعَلِّم باستحضار ذَلِكَ، وحينئذ يسلَّم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلِّم إِلىَ حفظها كُـلِّهَا أو أكثرها، ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كُتب في صناعة واحدة، إذا تجرَّد لها فيقع القصور ـ وَلاَ بُدَّ ـ دون رتبة التحصيل»([19]).



([1])    من بويط بصعيد مصر.

([2])    لمزيد تعريف بهذه المدرسة الفقهية وبيان لمكانتها ومساهماتها، ينظر: التيواجني: أَشِعَّة من الفقه، ص59 إِلىَ آخر الكِتَاب.

([3])    الخضري: تاريخ التشريع، 191-194. نأسف لقلة مصادر الشيعة عندنا، فلا مناص من اعتماد مصادر لغيرهم. لذا فالمعلومات تؤخذ مع شَيْءٍ من التحفُّظ.

([4])    يرى هاشم معروف الحسني (وهو شيعي) أَنَّ الشيعة وسط بـين المعتزلة والأشاعرة وأكَّد عَلَى هَذِهِ الفكرة في كامل كِتَابه: الشيعة بـين الأشاعرة والمعتزلة.

([5])    الأشقر: تاريخ الفقه، ص109 فما بعد. السايس: تاريخ الفقه، ص127 فما بعد.

([6])    السايس: تاريخ الفقه، 137-139. دروس الأستاذ عبد الوَهَّاب حميد أوجانة، ص32-33.

([7])    وَرُبَّمَا أَدَّى الأمر بالبعض إِلىَ أن يتحوَّل عن مذهبه حفاظا عَلَى قوته، كما فعل محَمَّد الدهان النحوي إذ تحوَّل من مذهبه الحنبليِّ إِلىَ الشافعيِّ، ثُمَّ إِلىَ الحنفي، ثُمَّ إِلىَ الشافعيِّ ثانية، بسبب انتقاله من وظيفة إِلىَ أخرى. ينظر: الشعراني: الميزان، 1/37. نقلا عن الأشقر، تاريخ الفقه، ص154.

        وانظر بعض الأمثلة عن دور السلطة في انتشار المذاهب الفِقْهِيَّة في المراجع الآتية: نظرة تَارِيخِيَّة في حدوث المذاهب الإِسلاَمِيَّة، لأحمد تيمور، ص9. مُقَدِّمَة ابن خلدون، ص448. ظهر الإِسلاَم، لأحمد أمين، 1/300. المذهبية المتعصبة، لمحَمَّد عيد عبَّاس، ص217. الأشقر: تاريخ الفقه، ص154-155.

([8])    ففي صحيح البخاري أَنَّ وُدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا كانت أَسْمَاءَ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، «فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ». كِتَاب تفسير القرآن، باب قَوله تَعَالىَ: {وَلاَ تَذَرُنَّ وُدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، حديث رقم 4636.

([9])    يقول ابن خلدون: «إِنَّ تعليم العلم من جملة الصنائع، والصنائع إِنَّمَا تكثر في الأمصار، وَعَلَى نسبة عمرانها في الكثرة وَالقِلَّة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأَنـَّهُ أمر زائد عَلَى المعاش، فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إِلىَ ما وراء المعاش من التَّصَرُّف في خَاصِّـيَّة الإِنسَان، وهي العلوم والصنائع». ابن خلدون: مُقَدِّمَة، ص437. نقلا عن الأشقر، ص153.

([10])   اشتهر عَلَى الألسنة بلفظ: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد». وَلَكِنَّه في الكتب التسعة ورد بذكر «الحاكم» كما أثبتناه. واللفظُ للبخاري، كِتَاب الاعتصام بِالكِتَابِ وَالسُّنـَّة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، رقم 6919.

([11])   انظر مزيدا من المناقشة لِهَذِهِ القَضِيَّة: الأشقر: تاريخ الفقه، ص156-160.

([12])   ومن ذَلِكَ ما وقع للشيخ أبي يعقوب يوسف بن خلفون، «إذ هَجَرهُ بعض الفقهاء وقتًا غير قصير، امتدَّ حوالي اثني عشر عاما، متَّهمين إِيَّاهُ بالاستهانة بكتب المذهب الإِبَاضِيِّ، والتهاون في التمسُّك بها، غير أَنـَّهُم غيَّروا موقفهم منه آخر الأمر، واعترفوا بفضله، لَمَّا تبيَّن لهم مستنده وهدفه، وصدق منهجه، وخلوص نيته». ينظر: مصطفى شريفي: ابن خلفون، نبذة عن حياته ، وأجوبته الفِقْهِيَّة، دورية الحياة، العدد 8، رَمَضَان 1425هـ/نوفمبر 2004م، ص101 فما بعد.

([13])   ذكر الأشقر شروط المناظرة الجائزة، وقد نقلها من إحياء علوم الدين للغزالي، 1/43. الأشقر، ص164.

([14])   ينظر المرجع نفسه، ص166-174.

([15])   انظر أمثلة عجيبة ذكرها الأشقر، ص177.

        ومنها أَنَّ الشيخ السالمي سئل عن افتراض أَنَّ الصلاة وجبت خمسين مَرَّة؟ فكان من جوابه: «...ولا ينبغي البحث عن مثل هَذَا فَإِنـَّهُ لم يقع، وفي البحث في الواقعات أَعْظَمُ (أَفْضَلُ) شغل فكيف لنا بغير الواقع!». العقد الثمين، 2/117. جوابات، 1/317-318. وما بـين قوسين من الجوابات. شريفي: الشيخ نور الدين السالمي، ص183.

([16])   السايس: تاريخ الفقه، ص131-132.

         هَذَا ومع الأسف لم نجد فيما بـين أيدينا من مصادر الإِبَاضِيَّة ما يَدُلُّنا عَلَى هَذَا النوع من الترجيح بـين روايات أَئِمَّة الإِبَاضِيَّة، خَاصَّةً الإمام جابر بن زيد، وقد رويت عنه آراء متعارضة، يعرفها من يقف عَلَى كِتَاب «فقه الإمام جابر بن زيد» الذي جمعه الأستاذ يحيى بكُّوش، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التأصيل لدى الإِبَاضِيَّة يحتاج إِلىَ اهتمام وجهد كبير من قبل الباحثين.

         وقد عقد الدكتور مصطفى باجو في أطروحته بابا للتعارض والترجيح، وَلَكِن لبيان الترجيح بـين الأَدِلَّة لا بـين الروايات. ينظر: باجو: منهج الاجتهاد عند الإِبَاضِيَّة، 2/633 فما بعد.

([17])   فقد قال أبو حامد لظاهر العباداني: «لا تَعلَقْ كثيرا بِمَا تسمع مِنِّي في مجالس الجدل، فَإِنَّ الكلام فيها يجري عَلَى ختل الخصم ومغالطته ودفعه ومغالبته». السايس: تاريخ الفقه، 133.

([18])   انظر: مُقَدِّمَة ابن خلدون فقد تحدَّث عن أَهَمِّيـَّة التلقي المباشر عن المشايخ وتعدُّدهم، لِمَا فيه ـ إضافة إِلىَ ما ذُكر ـ من محاكاة المشايخ في الأخلاق والفضائل.

([19])   ابن خلدون: مُقَدِّمَة، ص 587.