محاضرات مادة نماذج تنموية في العالم

مدخل الى مفهوم التنمية

يعد مفهوم التنمية من أهم المفاهيم العالمية في القرن الواحد و العشرين، حيث أُطلق على عملية تأسيس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة فيما يُسمى بـ "عملية التنمية"، ويشير المفهوم لهذا التحول بعد في الستينيات من هذا القرن- في آسيا وإفريقيا بصورة جلية. وتبرز أهمية مفهوم التنمية في تعدد أبعاده ومستوياته، وتشابكه مع العديد من المفاهيم الأخرى مثل التخطيط والإنتاج والتقدم.

وقد برز مفهوم التنمية بصورة أساسية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث لم يستعمل هذا المفهوم منذ ظهوره في عصر الاقتصادي البريطاني البارز " آدم سميث" في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الثانية إلا على سبيل الاستثناء، فالمصطلحان اللذان استُخدما للدلالة على حدوث التطور المشار إليه في المجتمع كانا التقدم المادي، أو التقدم الاقتصادي.

وحتى عندما ثارت مسألة تطوير بعض اقتصاديات أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر كانت الاصطلاحات المستخدمة هي التحديث، أو التصنيع.

وقد برز مفهوم التنمية بداية في علم الاقتصاد حيث استُخدم للدلالة على عملية إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين؛ بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده، بمعنى زيادة قدرة المجتمع على الاستجابة للحاجات الأساسية والحاجات المتزايدة لأعضائه؛ بالصورة التي تكفل زيادة درجات إشباع تلك الحاجات؛ عن طريق الترشيد المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة، وحسن توزيع عائد ذلك الاستغلال.

ثم انتقل مفهوم التنمية إلى حقل السياسة منذ ستينيات القرن العشرين؛ حيث ظهر كحقل منفرد يهتم بتطوير البلدان غير الأوربية تجاه الديمقراطية. وتعرف التنمية السياسية: " بأنها عملية تغيير اجتماعي متعدد الجوانب، غايته الوصول إلى مستوى الدول الصناعية"، ويقصد بمستوى الدولة الصناعية إيجاد نظم تعددية على شاكلة النظم الأوربية تحقق النمو الاقتصادي والمشاركة الانتخابية والمنافسة السياسية وترسخ مفاهيم الوطنية والسيادة والولاء للدولة القومية.

ولاحقًا، تطور مفهوم التنمية ليرتبط بالعديد من الحقول المعرفية. فأصبح هناك التنمية الثقافية التي تسعى لرفع مستوى الثقافة في المجتمع وترقية الإنسان، وكذلك التنمية الاجتماعية التي تهدف إلى تطوير التفاعلات المجتمعية بين أطراف المجتمع: الفرد، الجماعة، المؤسسات الاجتماعية المختلفة، المنظمات الأهلية.
بالإضافة لذلك استحدث مفهوم التنمية البشرية الذي يهتم بدعم قدرات الفرد وقياس مستوى معيشته وتحسين أوضاعه في المجتمع.

ويلاحظ أن مجموعة المفاهيم الفرعية المنبثقة عن مفهوم التنمية ترتكز على عدة مسلمات:
أ - غلبة الطابع المادي على الحياة الإنسانية، حيث تقاس مستويات التنمية المختلفة بالمؤشرات المادية البحتة.
ب- نفي وجود مصدر للمعرفة مستقل عن المصدر البشري المبني على الواقع المشاهد والمحسوس؛ أي بعبارة أخرى إسقاط فكرة الخالق من دائرة الاعتبارات العلمية.

ج- إن تطور المجتمعات البشرية يسير في خط متصاعد يتكون من مراحل متتابعة، كل مرحلة أعلى من السابقة، وذلك انطلاقًا من اعتبار المجتمع الأوروبي نموذجًا للمجتمعات الأخرى ويجب عليها محاولة اللحاق به.

مصطلح التنمية أي مفهوم: يتضح الاختلاف بين مفهوم التنمية في اللغة العربية عنه في اللغة الإنجليزية، حيث يشتق لفظ "التنمية" من "نمـّى" بمعنى الزيادة والانتشار. أما لفظ "النمو" من "نما" ينمو نماء فإنه يعني الزيادة ومنه ينمو نموًا. وإذا كان لفظ النموّ أقرب إلى الاشتقاق العربي الصحيح، فإن إطلاق هذا اللفظ على المفهوم الأوروبي يشوه اللفظ العربي. فالنماء يعني أن الشيء يزيد حالاً بعد حال من نفسه، لا بالإضافة إليه.

وطبقًا لهذه الدلالات لمفهوم التنمية فإنه لا يعد مطابقا للمفهوم الإنجليزي Development الذي يعني التغيير الجذري للنظام القائم واستبداله بنظام آخر أكثر كفاءة وقدرة على تحقيق الأهداف وذلك وفق رؤية المخطط الاقتصادي (الخارجي غالباً) وليس وفق رؤية جماهير الشعب وثقافتها ومصالحها الوطنية بالضرورة.
ويلاحظ أن شبكة المفاهيم المحيطة بالمفهوم الإنجليزي تختلف عن نظيرتها المحيطة بالمفهوم العربي.
ويتضح من ذلك أن مفهوم النمو في الفكر الإسلامي يعبر عن الزيادة المرتبطة بالبركة وأجر الآخرة وإن لم يتجاهل مع هذا "الحياة الطيبة" في الدنيا، بينما يركز مفهوم
Development على البعد الدنيوي من خلال قياس النمو في المجتمعات بمؤشرات اقتصادية مادية في مجملها، حيث تقوم المجتمعات بالإنتاج الكمي، بصرف النظر عن أية غاية إنسانية، وتهتم بالنجاح التقني ولو كان مدمرًا للبيئة ولنسيج المجتمع وتؤكد على التنظيم الاجتماعي ولو أدى إلى الاضطهاد للآخر/ الغريب..

وفي الواقع فإن "التنمية" تعد من المفاهيم القليلة التي تجمع بين البعد النظري والجانب التطبيقي وتستدعي الرؤية الفلسفية والغيبية للمجتمعات ومقاصد تطورها.

مفهوم التنمية المستدامة:

بدأ هذا المفهوم يظهر في الأدبيات التنموية الدولية في أواسط الثمانينيات تحت تأثير الاهتمامات الجديدة بالحفاظ على البيئة ونتيجة للاهتمامات التي أثارتها دراسات وتقارير نادي روما الشهيرة في السبعينيات حول ضرورة الحفاظ على الموارد الطبيعية القابلة للنضوب، وعلى البيئة والتوازنات الجوهرية في الأنظمة البيئية. وقد انتشر استعمال المفهوم بسبب تكاثر الأحداث المسيئة للبيئة وارتفاع درجة التلوث عالميا. وانتشر أيضا في الأدبيات الاقتصادية الخاصة بالعالم الثالث نظرا لتعثر الكثير من السياسات التنموي المعمول بها، التي أدت إلى تفاقم المديونية الخارجية وتردي الإنتاجية، وخاصة في القطاع الصناعي، وكذلك إلى توسع الفروقات الاجتماعية في عدد كبير من الدول، بل إلى المجاعة أو قلة التغذية في بعض الأحيان لدى الفئات الفقيرة التي ساءت أحوالها في الثمانينيات بالرغم من كل الاستثمارات التي نفذت في العقدين السابقين.

وقد استقر الرأي تدريجيا على أن السياسات التنموية، لكي تؤدي إلى إنماء قابل للاستمرار يجب ألا تحترم مقومات البيئة التي يعيش فيها الإنسان وحسب، بل عليها أيضا أن تراعي قدرة كل الفئات الاجتماعية على تحمل التغيير والاستفادة منه على قدم المساواة. ولهذه الأسباب امتد نطاق المفهوم إلى القضايا الإنسانية والبشرية وأصبحت النظريات التنموية تركز أكثر على هدف التنمية، أي الإنسان، وأحواله الصحية والثقافية والسياسية، وذلك على خلاف الفترات السابقة التي كان التركيز ينصب خلالها على وسائل التنمية المادية، أي على زيادة معدلات الاستثمار ومعدلات النمو الاقتصادي العام السنوية، وزيادة مستويات الاستهلاك من منتجات الصناعة الحديثة.

ويصعب إيجاد كلمة واحدة في اللغة العربية تعكس بدقة محتوى التعبير الإنكليزي، الذي له اكثر من معنى. فكلمة (Sustainable) تعني القابل للاستمرارية أو الديمومة، كما تعني القابل للتحمل، وبالتالي القابل للاستمرار. وتقارير برنامج الأمم المتحدة للتنمية المتعلقة بالتنمية البشرية تستعمل، في ترجمتها إلى اللغة العربية، تعبير " التنمية المستدامة ". ويمكن أيضا، في اللغة العربية، أن نلجأ إلى كلمة " الدعم " للتعبير عن معاني المفهوم. فالتنمية المستدامة هي التي تجد في ذاتها ما يدعم استمرارها فتكون بالتالي تنمية متداعمة " . وهي لا يمكن أن تكون كذلك إذا لم تكن متحملة ومقبولة من فئات المجتمع المختلفة. والمعنى الأول لفعل (Sustain) باللغة الإنكليزية هو " دعم " أو " أيد "، بالإضافة إلى معنى " استمر ". ومن هذا المنظور، هناك تشابه مع مفهوم  التنمية بالاعتماد على النفس أو التنمية المركزة ذاتيا، وهي تعابير استعملت كثيرا في الأدبيات الاقتصادية العربية، غير أن محتوى تعبير" المتداعم " هو أوسع أفقا إذ يشتمل على معان أشمل تتناول الأوجه البشرية والبيئية والسياسية للتنمية الاقتصادية، بينما يوحي مفهوم الاعتماد على النفس، ولو بشكل غير صحيح، بسياسات الانغلاق على الذات وعدم الاندماج في الاقتصاد العالمي (Global Economy) الذي يتميز به العالم في نهاية هذا القرن.

والجدير بالذكر أيضا، أن " الديمومة " أو الاستمرارية المعنية في مفهوم التنمية هذا، تشير إلى الامتداد والروابط بين الأجيال، أي أنها تعني أن الجيل الحالي يجب أن يترك للأجيال القادمة مخزونا كافيا من الموارد الطبيعية ونظاما بيئيا غير مدمر وغير مصاب بالتلوث،وكذلك مستوى كافيا من الملكة في العلوم والتكنولوجيا، بحيث تتمكن هذه الأجيال من الاستمرار في التنمية والاستفادة من فوائدها المختلفة.

وفي هذه الدراسة، سنستعمل عبارة التنمية المستدامة التي أصبحت دارجة في الأدبيات التنموية الجديدة، مع أن عبارة " القابلة للديمومة أو الاستمرارية " تشير بشكل افضل إلى المعنى المقصود. أي أن آليات التنمية يجب أن تهدف، كما سنرى، إلى بروز مزيد من الدعم والارتياح لدى أوسع الفئات الاجتماعية، مما يؤمن للتنمية صفة الاستمرارية ويحول دول تعرضها للنكسات أو حركات الرفض من قبل بعض الفئات المتضررة من نمط تنموي لا يؤمن للجميع الحد الأدنى من الشعور بالتقدم " الموزون "، أي  الذي يتيح للجميع أن يشعروا بأن التنمية تفيدهم، لا بأنه تخرب مقومات حياتهم وتسبب لهم المتاعب أو التعاسة المادية أو الثقافية والروحية والفكرية.

ولذلك يشمل المفهوم، كما سيتبين فيما بعد، فكرة الحوار الدائم، الديمقراطي الطابع بين صانعي القرار من جهة، والفئات المختلفة في المجتمع المدني، من جهة أخرى، وذلك ضمن إطار مؤسس واضح يؤمن أساليب التعبير عما تراه تلك الفئات من مشاكل ومتاعب في حياتها وفي ممارسة عمل منتج ذي مردود لائق. وهذه هي الناحية السياسية في مفهوم التنمية المستدامة. وتتجسد هذه الناحية في مفهوم جديد يكثر استعماله ويسمى باللغة الإنكليزية (Governance)، أو " الحاكمية "، أي جدية أسلوب الحكم في المجتمع على أساس الحوار بين الحاكم والمحكوم وشفافية تصرفات الحكم ووضع قواعد واضحة لمسؤولية أهل الحكم (Accountability)، أي  " المساءلة ".

وقد اعتاد الناس، خاصة في الدول النامية، أن ينظروا إلى هذا الأمر وناقشوه فيما يخص أسلوب الحكم السياسي والقرارات السياسية والدبلوماسية فقط، غير متمعنين إلا بشكل هامشي في القرارات الاقتصادية الكلية والأنماط أو النماذج المتبعة. كما انهم اعتادوا عدم النظر بالتفصيل إلى التصرفات الاقتصادية لمؤسسات القطاع العام أو القطاع الخاص. والتنمية القابلة للديمومة هي التي تستند إلى الحد الأدنى من القناعات في المجتمع المدني وتبادل الرأي وتوفر المعلومات والمعطيات الدقيقة لإجراء الحوار واتخاذ القرارات التنموية المناسبة.

اشكال التنمية التنمية:

 الثقافيّة الفكريّة: هي التي تعتمد على تحسين ثقافة الأفراد وزيادة الوعي لديهم، ويكون ذلك من خلال عدة طرق منها تعميم التعليم للجميع ومحاربة الأمية.

 التنمية الاجتماعيّة: تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي للأفراد وتشجيعهم على المشاركة بالمناسبات الاجتماعية، والأعمال الخيريّة، ونشر الروح الجماعية المشتركة فيما بينهم.

 التنمية السياسيّة: تهدف إلى زيادة قدرة الأفراد على المشاركة في العملية السياسية، وصنع القرارات، والقدرة على الاختيار السليم.

التنمية الاقتصاديّة: تهدف إلى تشجيع الأفراد على العمل، والإنتاج، والإخلاص في العمل النابع من الضمير الداخلي للشخص، والحرص على المصلحة العامة.

خصائص تنمية المجتمع:

-         عملية شاملة لجميع جوانب المجتمع الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والإدارية، حيث تتعامل معه باعتباره نظاماً كاملاً ومتكاملاً.

-         عملية مستمرة، فهي لا تقف عند حد معين من التغيير، كما أنّ عملية تطبيقها للحصول على النتائج المطلوبة تحتاج إلى وقت طويل؛ لأنّ التغيير يحصل في البنية الأساسيّة للمجتمع.

-         عملية مخططة، فلا يمكن البدء بأي شكل من أشكال التنمية إلا بعد تحديد الأهداف الرئيسية منها، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا من خلال عملية تخطيط ذات أسلوب علمي منظم.

-         عملية استثماريّة؛ حيث ترتكز على استثمار الموارد البشريّة والماديّة الموجودة بهدف تحقيق النتائج. عملية إدارية يرتكز النجاح فيها على كفاءة الإدارة في الدولة، وبتعاون جميع المؤسسات فيها سواءً كانت حكوميّة أم خاصة.

-         عمليّة التنمية تهدف إلى النهوض بأفراد المجتمع وتحقيق الرفاهية لهم.

اتجاهات و نظريات التنمية:

تهدف التنمية الاجتماعية إلى إحداث التغيير المطلوب في المجتمع و الذي يساعد على النمو السليم له و تلافي ما قد يكون فيه من مشكلات و تخلف اجتماعي أو اقتصادي ، اعتمادا على ما يكون لدى هذا المجتمع من قدرات مادية و بشرية ، و حتى تكون عملية التنمية سليمة غير عشوائية و لا ينتابها التعثر، لا بد أن تكون مؤسسة على خطط تنموية جيدة البناء ، و حتى يتحقق ذلك لا بد من الاستناد إلى  نظرية تفسر عمليتي التخلف و التنمية ، فهناك علاقة كبيرة بين النظرية و التنمية، سواء كانت هذه النظرية ذات اتجاه اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، و يمكن القول أن النظرية تعمل على أن تتم عملية التنمية بأفضل سرعة ممكنة لها ، كما تساهم هذه النظريات في تفسير العقبات التي قد تعترض عملية التنمية و بالتالي تساعد على إزاحتها من دربها ، كما تساعد هذه النظرية على أن تعمل التنمية بعيدا عن الإضرار بالبيئة و تتجنب التلوث الذي قد يلحق بها، و خاصة من وجهة نظر التنمية المستدامة ، إن الأخذ بنظرية ما عند التخطيط للتنمية يعمل على توفير الطاقة و الوقت و الأموال و الجهود على المدى البعيد.

هذه النظريات كانت متنوعة الاتجاهات مع ما يرتبط فيها من مفاهيم وسنستعرض هنا أهم هذه الاتجاهات و النظريات.

الاتجاهات المختلفة في تفسير قضايا التنمية و التخلف : تعددت اتجاهات دراسة و تفسير مفاهيم التنمية و التخلف وفقا لاتجاهات المتخصصين و المفكرين و المهتمين بهذا المجال ، و بالتالي ظهرت اتجاهات متباينة تسعى نحو إيجاد نظرية في التنمية و التخلف، و لذا توجد عدة اتجاهات أساسية يحاول كل منها معالجة هذا الواقع من وجهة نظره ، و سوف نشير لأهم هذه الاتجاهات فيما يلي:

الاتجاه الجغرافي: يتخذ هذا الاتجاه من الأوضاع الجغرافية و الموارد الطبيعية مرتكزا له باعتبارها عوامل أساسية في تحديد مدى تقدم المجتمع أو تخلفه ، ويسقط من حسبانه كافة العوامل الأخرى حيث يعتبر أنها عوامل ذات تأثير محدود لا يستحق الذكر في عملية التنمية .

و من أشهر النظريات التي تندرج تحت هذا الاتجاه نظرية الحتمية الجغرافية و التي يرى روادها أن كل البلاد المتخلفة تقع إما في المناطق شديدة الحرارة أو شديدة البرودة و أن الغالبية العظمى منها تقع في المنطقة المدارية في إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية و بالتحديد في نصف الكرة الجنوبي ، و تتسم كثير من البلدان التي تقع في النطاق المداري بالتخلف و بخاصة في المجالات الزراعية و الصحية و التعليمية مع معاناة بعضها من سوء التغذية و تفشي الأمراض و الأوبئة المختلفة ، بينما تقع معظم الدول المتقدمة في المناطق المعتدلة و الحقيقة أن وقوع الدول النامية في المناطق المدارية أمر قد يساعد على التخلف لهذه الدول نتيجة عوامل مختلفة منها ارتفاع درجة الحرارة و الرطوبة مما يحد من نشاط الأفراد ومعدل إنتاجهم مع انتشار الأمراض المستوطنة في تلك المناطق المدارية ، ومما يؤثر على حالتهم الصحية و قدرتهم على تحمل مشاق العمل .

و الحقيقة أن الأدلة و الشواهد لا تدعم الاتجاه الجغرافي في تفسير التنمية و التخلف فالعوامل الجغرافية و الموارد الطبيعية لا يمكن أن تكون وحدها سببا للتخلف و ذلك لما يلي :

-         أن السوابق التاريخية تثبت وصول بعض المجتمعات القديمة التي عاشت في نفس المناطق المدارية و نفس ظروفها الطبيعية إلى درجة عالية من التقدم و المدنية كالقدماء المصريين و الفرس والعرب و الهند و الصين  .

-         استطاعت بعض المناطق ذات الخصائص الجغرافية غير المواتية أن تحقق معدلات عالية من التنمية ومواجهة التخلف اعتمادا على التقدم العلمي.

-         تعاني بعض الدول النامية في المناطق المعتدلة من التخلف مثل بعض دول حوض البحر المتوسط و أمريكا الجنوبية.

-         أن التقدم العلمي أصبح كفيلا بمواجهة مشكلات الزراعة المترتبة على عدم مناسبة الظروف المناخية الطبيعية و أصبح عاملا حاسما في التغلب على الأمراض و الأوبئة في تلك المناطق.

-         هناك دمار في الكوكب و تلوث بيئي قد يؤثر على كثير من الدول و غالبيتها ما يسمى بالدول المتقدمة.

و لذا تتضح عدم أهمية الاتجاه الجغرافي في تحديد تقدم أو تخلف المجتمعات و إن كان يعد عاملا له تأثيره المهم .

الاتجاه الاجتماعي : يعتمد هذا الاتجاه في تفسيره للتنمية و التخلف على العمليات الاجتماعية التي تحدث في الدول النامية فأينما وجدت النظم الاجتماعية التي تواجه التقدم و التغير يوجد التخلف و يحدد مؤيدو هذا الاتجاه عدة عوامل تحد من التنمية و تؤدي إلى التخلف و من هذه العوامل ما يلي :

1-    العادات و التقاليد المرتبطة بنمط الإنفاق الاستهلاكي بدافع حب التفاخر و التظاهر و إنفاق المبالغ فيه في مجالات المناسبات الاجتماعية و الدينية.

2-    العوامل الثقافية المرتبطة بتوجيه المدخرات في استثمارات غير منتجة كاكتناز الذهب و اقتناء الجواهر و تشييد المساكن الفاخرة و شراء الأراضي و الدخول في المضاربات التجارية.

3-    عدم الاستغلال الأمثل لوقت الفراغ فيما يمكن أن يعود بالنفع على الشخص و المجتمع .

4-    عدم الاستغلال الأمثل للقوى البشرية نتيجة عدم وجود خطة قومية دقيقة لتوزيع القوة المنتجة وفقا لاحتياجات التنمية في المجتمع مع تدني قيمة الأعمال اليدوية و المهن الفنية و ارتباطها بمفاهيم خاطئة تعتبرها مهنا دنيا غير لائقة فضلا عن عدم الاستعانة بذوي الخبرة و الكفاءة العلمية وعدم وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب.

5-    العادات السلبية المرتبطة بمفاهيم سائدة مثل عزوف المرأة عن المشاركة في الإنتاج في كثير من القطاعات مما يزيد من أعباء المنتجين و يؤثر على القدرة الإنتاجية و على الدخل القومي في المجتمع.

6-    بعض الأنماط الثقافية السلبية التي تسود في كثير من البلدان النامية مثل السلبية و اللامبالاة و الاستسلام للأمر الواقع و التمسك بالقديم و التباهي بالماضي و اليأس و المبالغة و التسيب و الفوضى.

و يؤكد هذا الاتجاه على أهمية الهيكل السكاني في المجتمع و خصائصه المتنوعة كأحد العوامل المؤثرة في التنمية بالإضافة على مجموعة من المشكلات مثل البطالة و القيم و التقاليد السائدة في المجتمع .

الاتجاه السياسي :يرى أصحاب هذا الاتجاه أن التخلف في جوهرة هو نتيجة للاستعمار سواء في شكله القديم أو الحديث على حد سواء ، فأينما وجد الاستعمار فإن نتيجته تكون التخلف للبلاد التي وقعت تحت وطأته ، و من المؤسف أنه في ظل الاستعمار العسكري القديم ظلت الدول المستعمرة مرتبطة ارتباطا وثيقا سياسيا و اقتصاديا و عسكريا مباشرة بالدول التي استعمرتها ، إلا أنه بخروج المستعمر عسكريا استبدل شكله العسكري إلى شكل آخر من السيطرة الاستعمارية في المجال الاقتصادي والسياسي و الثقافي ، و هو ما يعرف بالتبعية المباشرة للدول المستعمرة[1].

التبعية و التخلف :و تعتبر من أحدث النظريات ، و روادها هم من علماء الاجتماع في أمريكا اللاتينية ، و هذه النظرية ترى أن تخلف مجتمعات الدول النامية شرط ضروري و لازم لتصور النظام الرأسمالي ، إذ أن تبعية هذه البلدان أمرا ضروريا لتقدم الدول الرأسمالية ، و الدول التابعة لها لا بد و أن تتبنى خصال التبعية بحيث تعكس تلك الخصال في البنية السفلى و البنية العليا لها ، و من ثم فإن الظواهر الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية للدول المتبوعة تنسحب على مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية لأكثر المجتمعات النامية بسبب علاقة التبعية التي تربط دولها بالدول المتقدمة صناعيا[2].

و يمكن القول بأن العلاقة بين التخلف والتبعية هي علاقة تتسم بالجدلية فإذا كان التخلف يعود إلى التبعية فإن التبعية تزيد من التخلف ، كما أن العملية الإنتاجية في الدول النامية لها محددات معينة تتحكم في جوانبها ، فهي أولا تتوقف على ما تقدمه الدول الصناعية للدول النامية من تكنولوجيا و آلات و خبرات بل و ربما رؤوس أموال و ثانيا إن الدول المسيطرة غالبا ما تحجب عن النامية جوانب من أسرار العملية التتبعية للإنتاج ، فضلا عن أن معظم العمليات التنموية في الدول النامية تسيطر عليها الدول الصناعية ، كما أن اقتصاديات الدول النامية لا تقوم على خدمة المصالح القومية المحلية في الأساس الأول ، بل تعمل لخدمة مصالح القوى المسيطرة أساسا.

هذا و لقد وضعت الدول المسيطرة إستراتيجية لتأكيد هذه التبعية و تحقيق أكثر الفوائد منها، و تتضح أهم ملامح هذه الإستراتيجية في التالي:

-        التعاون بين المعسكر الغربي و الشرقي تحقيقا للتغلغل الاقتصادي بصوره المختلفة ، و من أجل فتح أسواق لتصريف سلع الإنتاج مثل التعاون بين الدول الأوربية و مجموعة من الدول في المجالات التجارية و الثقافية و التكنولوجية كذلك التعاون بين الولايات المتحدة و الصين .

-        تحويل المكاسب التي حققتها دول الأوبك من جراء رفع أسعار البترول إلى مكاسب في صالح الدول الأوربية لعدم قدرة الدول النامية على استيعاب فوائضها.

-        خلق توتر في مختلف أنحاء العالم و التوسع في سباق التسلح و السيطرة مع التلويح بخطر الحرب و التدخل في النزاعات الدولية.

-        عقد الاتفاقيات التي تؤكد على حماية مصالح و أنشطة الشركات الاستثمارية التابعة لها.

-        مداومة العمل على فتح أسواق جديدة لامتصاص العائد السلعي و الصناعات الاستهلاكية.

-         التغلغل الثقافي و الفكري بين أوساط المجتمعات النامية لتحقيق السيطرة المطلوبة ، و بث القيم المرتبطة بها من خلال استغلال أجهزة الحكم و وسائل الضبط الاجتماعي و وسائل الإعلام.

-         ربط الدول المتخلفة بأساليب أكثر تطورا بهدف استمرار السيطرة الاقتصادية و الثقافية و السياسية و بهدف تصدير أي أزمات داخلية تعاني منها تلك الدول المسيطرة إلى الدول المتخلفة[3].

الاتجاه الاقتصادي: يربط هذا الاتجاه بين التخلف و انخفاض معدل الدخل للفرد فدرجة تخلف المجتمع تتوقف على متوسط معدل الدخل الفردي لأبناء ذلك المجتمع ، هذا وبالرغم من اتجاه الحكومات إلى تحقيق معدلات سريعة للنمو بالبلاد المتخلفة ، و إلى زيادة متوسط الدخل الفردي ، فإن هناك تفاوتا يزداد بصفة شبه مستمرة بين الدخل الفردي في البلدان المتقدمة و النامية ، فمعدل الزيادة في الدخل القومي بالبلاد المتقدمة أكبر من معدل زيادة السكان ، وذلك بالقياس إلى أقطار العالم النامي التي غالبا ما تحد فيها معدلات الزيادة السكانية المرتفعة من فرص تحسين الدخل الفردي.

و الحقيقة أن متوسط دخل الفرد بالنسبة للناتج القومي لا يمكن أن يكون بمفرده مقياسا لتحديد درجة النمو أو التخلف الاقتصادي ، و بالتالي لا يعتبر وحده معيارا للتفرقة بين الدول التقدمة اقتصاديا و الدول النامية و لذا فإن هذا الاتجاه تشوبه الكثير من أوجه القصور للأسباب التالية :

-        يغفل هذا الاتجاه التفرقة بين بلدان العالم من حيث مستويات الأسعار و الظروف الاقتصادية و الاجتماعية العامة في كل بلد على حدة و كذلك الدخول غير المنظورة و لذلك فإن معدل الدخل الفردي و حتى معدل الدخل القومي لا يصلحان للحكم على التخلف.

-         لا يأخذ هذا الاتجاه في اعتباره التباين في مستويات الأسعار بين الدول المتخلفة فتكاليف المعيشة على سبيل المثال في الدول النامية أقل منها بكثير في الدول المتقدمة.

-         يختلف مفهوم الدخل القومي و طريقة تقديره من دولة لأخرى.

-        لا يأخذ في اعتباره الاستهلاك الذاتي و لا المردود الاقتصادي للخدمات المختلفة و لا نوعية السلع و الخدمات اللازمة لإشباع حاجات السكان من دولة لأخرى باختلاف الظروف الجوية و العوامل المناخية.

-        أن متوسط دخل الفرد يخفي وراءه حقيقة مهمة ألا و هي العدالة في توزيع الدخل القومي بين أفراد المجتمع ، فقد يكون متوسط دخل الفرد مرتفعا و لكن قد يكون هناك في نفس الوقت تفاوتا كبيرا في توزيع الدخل بين أفراد المجتمع مما يؤدي إلى تركز الدخول في أيدي طبقة صغيرة بينما يعيش معظم أفراد الشعب في فقر مدقع[4].

الاتجاه المحافظ و الراديكالي : كما نجد بين العلماء من ينظر للعملية التنموية من خلال اتجاهين رئيسين في النظرية السوسيولوجية عامة ، و هما الاتجاه المحافظ بكافة أشكاله و مداخله و الاتجاه الراديكالي بكل أشكاله و مداخله و أهدافه و استنادا لهذه الثنائية النظرية يفسر ممثلو الاتجاه المحافظ بكل امتداداته مظاهر التقدم و النمو و التخلف في ضوء مقولات فكرية، قيمية، سيكولوجية، و بيولوجية و ما شابه ذلك مركزين على قضايا النظام و التساند و التناغم و التوازن داخل النسق من خلال حتمية الالتزام بالبناء القيمي و الأخلاقي القائم في المجتمعات الرأسمالية و يرجعون مظاهر الفوضى و التوتر و الصراع و التخلف المختصة بالدول النامية إلى ضعف الصفوة المسيرة و عدم قدرتها على الضبط و التنظيم أما أنصار الاتجاه الراديكالي فيعللون قضايا التخلف و التقدم و النمو …. في ضوء متغيرات علاقات و قوى الإنتاج و علاقات السيطرة و الصراع الطبقي في سياقات تاريخية متميزة.

و تأسيسا على ما سبق نجد اليوم مدرستين بارزتين و متميزتين في مجال التنمية : المدرسة الأولى و تسمى بنظرية التحديث و هي التي تقدم عرضا للأوجه العامة لعملية التنمية باعتمادها أساسا على تحليلات دوركايم و ماكس فيبر ، أما المدرسة الثانية فهي التي تعرف باسم نظرية التبعية أو نظرية التخلف ــ سبق الحديث عنها ضمن الاتجاه السياسي[5].

قائمة المراجع

[1]- قمر، عصام توفيق و آخرون، مدخل إلى دراسة المجتمع العربي، عمان، دار الفكر، 2008، ص ص 114-116.

[2]- الجوير، إبراهيم مبارك، الأسرة و المجتمع دراسات في علم الاجتماع العائلي، الرياض، دار عالم الكتب، 2009، ص53.

[3]- [3]- قمر، عصام توفيق و آخرون، مرجع سبق ذكره، ص ص 117-118.

[4]-  قمر، عصام توفيق و آخرون، مرجع سبق ذكره، ص ص 114-118.

[5]- غربي، علي و آخرون، تنمية المجتمع من التحديث إلى العولمة، القاهرة، دار الفجر، 2003، ص ص 72-73.