محاضرات القانون الاقتصادي العام
للسنة الثالثة قانون عام
السنة الجامعية 2020/2021
مقدمة:
يندرج ظهور القانون العام الاقتصادي أو كما يصطلح عليه كذلك بقانون تدخل الدولة في الاقتصاد ضمن منطق تفرع و تخصص القواعد القانونية حيث أن متطلبات الحياة العصرية قد أفرزت تدخل الدولة في مجالات عديدة منها المجال الاقتصادي. وكان هذا التدخل موطنا لنشاط معياري مكثف أفضى إلى ترتيب وجمع القواعد القانونية في تقسيمات علمية وفروع أكاديمية يختص كل واحد منها بمجال معين. ظهر في هذا السياق القانون العام الاقتصادي كتخصص أكاديمي في فرنسا بصفة تدريجية ابتداء من سنة 1945 وهو وليد إدارة الدولة للاقتصاد من جراء عوامل عديدة نذكر من بينها على سبيل المثال لا لحصر التراجع النسبي للطروحات الليبرالية المطلقة التي سادت في القرن التاسع عشر إلى غاية العقدين الأولين من القرن العشرين وعلى وجه الخصوص الوضع السيئ الذي كان يميز الاقتصاد الفرنسي عقب الحربين العالميتين مما استوجب على الدولة أن تحل محل المبادرة الخاصة المتعثرة ذلك في مجالات اقتصادية عديدة. في مقاربة مؤقتة وأولية، يمكن تعريف القانون العام الاقتصادي بأنه فرع من القانون العام يحدد سبل وكيفيات تدخل الأشخاص العمومية في الاقتصاد.
إن وجود قانون عام اقتصادي يفترض في الاتجاه المعاكس وجود قانون خاص اقتصادي يرى العديد من الفقهاء أن هذا الأخير يتمحور في أساسه حول تنظيم السوق من خلال تنظيم ورقابة عمليات المنافسة والتركيز الاقتصادي .هذا من جهة وتحديد القواعد التي تحكم علاقة المستهلك مع صانعي المنتجات والخدمات من جهة أخرى، لهذا سنتطرق في هاته المحاضرات إلى ما يلي :
الفصل الأول :مفهوم القانون العام الاقتصادي
الفصل الثاني: نظرية القطاع العام الاقتصادي
الفصل الثالث :الإطار القانوني لتسيير وتنظيم القطاع العام الاقتصادي في الجزائر
الفصل الأول: مفهوم القانون العام الاقتصادي
إن تحديد مفهوم القانون الاقتصادي العام يؤدى إلى طرح إشكالية وظائف الدولة وتدخلها في النشاطات الاقتصادية.
لقد حصل تطور في الفكر الاقتصادي العالمي أدى إلى بروز نظرية تؤيد تدخل الدولة في الاقتصاد على خلاف ما كانت عليه النظريات القديمة. في هذا الشأن وفي مرحلة معينة رفضت المدارس الاقتصادية الكلاسيكية والمعروفة بالمدرسة "الفيزيوقراطية " تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية بحجة أن القوانين الاقتصادية أشبه بالقوانين الطبيعية الكونية وهو ما يعني أن تدخل الإنسان في عمل سير هذه القوانين لم يترتب عنه سوى عرقلتها.
منذ "ادم سميث" ومفهوم اليد الخفية إلى"ميلطون فريدمان" يؤسس فكر هذه المدرسة رفض تدخل الدولة باعتبار أن الحرية الاقتصادية والمنافسة كفيلتان لوحدهما تحقيق ما يتطلبه المجتمع وأن اقتصاد السوق الخالي من التدخل هو السبيل الأنسب لتلبية الحاجات الاجتماعية، وتندرج هذه التصورات الليبرالية المحضة كلها ضمن تصور الدولة الحارسة وشعارها المعروف "دعه يمر دعه يعمل ودعه يقاول."
غير أن تطور الفكر الاقتصادي أدى إلى بروز نظريات تناشد وتدعو إلى تدخل الدولة في الاقتصاد وتتمثل هذه الأخيرة في المدرسة الكينزية ثم بعدها المدرسة الكينزية الجديدة اللتان قامتا من منطلق أعمال رجل الاقتصاد الإنجليزي "جون مينارد كينز" في فترة أزمة حادة مست جميع الدول المتقدمة. وعلى الرغم من تمسكه الشديد بمبادئ نظام السوق والمنافسة، كان يعتقد كينز أن السوق لا يمكن أن تأتي بجميع الحلول التي ينتظرها الاقتصاد و هي فاشلة في بعض المسائل مثل قضية التوزيع المحكم للموارد كما أن هناك سلع تسمى بالسلع العامة تستوجب تدخل الدولة لأنها و بحسب طبيعتها لا تجلب القطاع الخاص لعدم مرد وديتها الآنية بل يمكن أن تكون مؤجلة إلى وقت بعيد مما يدعو إلى التكفل بهذه السلع من منطلق ضرورتها. هذه الفترة الجديدة قد ناسبت وظيفة جديدة تسند إلى الدولة وهي وظيفة الدولة المتكفلة.
المبحث الأول: نشأة وتطور القانون العام الاقتصادي
المطلب الأول: نشأته وتطوره في فرنسا
في بداية الأمر، تجدر الإشارة إلى أنه في الفترة الممتدة من تاريخ الثورة الفرنسية أي 1789 إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى 1918-1914 كانت تدخلات السلطة العامة في المجال الاقتصادي شبه منعدمة لأن مبدأ حرية التجارة و الصناعة الذي كرسه في البداية قانون آلارد (Allarde)وأكد عليه فيما بعد قانون لو شابولي ( Le Chapelier) كان يمثل حظرا لتدخل الجماعات العمومية وعلى رأسها الدولة في النشاطات الاقتصادية بتكريسه حرية الأفراد في مزاولة هذه الأنشطة. لكن لم يمنع هذا الدولة بالظفر ببعض الأنشطة الاقتصادية السيادية كضرب (صناعة) النقود وتسييرها لبعض المشروعات الصناعية توارثتها عن النظام الملكي.
تبنت بعد ذالك الدولة الفرنسية في تسيير النشاطات الاقتصادية العمومية أسلوب التسيير المباشر ( (régie directeوأسلوب عقد امتياز المرفق العام service public) (Concession de عندما يمنح تسيير هذه النشاطات للمشروعات الخاصة. اقتصر القانون الاقتصادي لهذه المرحلة التاريخية على ركائز إدارية محضة وكان يتكون أساسا من قانون الصفقات العمومية وقانون امتياز المرفق العام الذي عكف القاضي الإداري على تشييد وتطوير نظرياتهما في أحكام قضائية أعطت لهذين المفهومين انسجاما كبيرا وأسسا لا تزال تميز إلى الوقت الحاضر النظرية الإدارية. وهذا ما يدعم الاعتقاد بأن القانون العام الاقتصادي لتلك الفترة كان مقرونا بالقانون الإداري.
أما فترة ما بين الحربين العالميتين فلقد شهدت تحولا جوهريا في التدخلات العمومية في الاقتصاد مع ظهور أولى ملامح ما يسمى بالاقتصاد الموجه.
تنوعت عوامل هذا التحول ورجعت في أسسها إلى معطيات موضوعية وظرفية كالحروب والأزمة الاقتصادية وكذلك إلى عوامل سياسية محضة أثرت على التوجهات الاقتصادية للدولة. بدلا من نظام الحماية الاقتصادية الذي كان يميز فرنسا من قبل وابتداء من سنة1931 قامت الدولة الفرنسية بوضع سياسة صارمة لرقابة السلع المستوردة في سياق الأزمة الاقتصادية التي عرفها العالم منذ عام 1929 مما يعني أن حرية الاستيراد أصبحت مقيدة بالحصص التي تقررها الدولة في استيراد المواد. من جهة أخرى تمثل العامل السياسي وهو تولي حكومة "الجبهة الشعبية" زمام الحكم في فرنسا في سنة 1936 حيث قامت هذه الحكومة بإصلاحات عميقة انطلقت من خيارات اقتصادية اشتراكية داعمة لتدخل الدولة في الاقتصاد. وتم تأميم قطاعات ونشاطات اقتصادية عديدة كالسكك الحديدية والمصانع الحربية، والعتاد الجوي .... إلخ.
عرفت هذه الفترة ظهور صيغة قانونية تدخلية جديدة تمثلت في الدواوين العمومية offices publics التي أحدثتها الدولة لتنظيم ورقابة قطاعات معينة على غرار ديوان الحبوب في المجال الزراعي.
لقد ساهمت هذه العوامل في تطوير التدخل الاقتصادي للدولة في الأشكال التوجيهية التي عرفناها من قبل وكذلك في شكل جديد تمثل في المؤسسة العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري (Etablissement public industriel ou commercial ).
فشكل هذا المفهوم الأخير الابتكار الكبير للقانون العام الاقتصادي لتلك المرحلة. وجاء في حكم محكمة التنازع الفرنسية. وهو حكم مستعمرة "كوت ديفوار" ضد الشركة التجارية لغرب إفريقيا".
كرس هذا الاجتهاد القضائي ولأول مرة في تاريخ القانون الإداري فصل نظام ونزاعات المرافق العامة القديمة التي أصبحت تعرف بالمرافق العامة الإدارية وتشخيصها القانوني المتمثل في المؤسسة العمومية الإدارية من نظام ونزاعات المرافق العامة الصناعية والتجارية وتشخيصها القانوني المتمثل في المؤسسة العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري ليختص القاضي الإداري في الأولى في حين تخضع الثانية للقاضي العادي ولأحكام القانون العادي.
استمر القانون العام الاقتصادي في تطوير أساليب تدخل الدولة بتبني أشكال وأنماط جديدة تستند في معظمها إلى التقرب من أشكال القانون الخاص أو حتى الاعتماد عليها كلية.
المطلب الثاني :نشأته وتطوره في الجزائر
إن نشأة وتطور القانون العام الاقتصادي في الجزائر اقترن ولمدة طويلة بما عرفه هذا الفرع القانوني في فرنسا من توسيع نطاق تدخل الدولة وبروز مفاهيم وصيغ قانونية جديدة تؤطر هذا التدخل في المجال الاقتصادي .
عرفت الجزائر في فترة الاحتلال وبحكم تبعيتها لسلطة الدولة الاستعمارية الفرنسية كل المظاهر التي كان يتخذها هذا القانون من إحداث هيئة اقتصادية عمومية على غرار الدواوين العمومية، المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري والمؤسسات العمومية الاقتصادية.
بعد استقلال الجزائر، يمكن تقسيم المراحل التي مر بها الاقتصاد الجزائري إلى مرحلتين كبيرتين هما: مرحلة بناء اقتصاد وطني مستقل يعتمد على النهج الاشتراكي والمرحلة الثانية هي مرحلة الانفتاح وانخراط الاقتصاد الجزائري في الاقتصاد العالمي الحر وتبنيه آليات ضبط اقتصاد السوق.
المرحلة الأولى التي تمتد من 1962 تاريخ استقلال الجزائر حتى 1988 قد حسمت فيها السلطات السياسية باختيار النهج الاشتراكي وكان تنظيم النمو الاقتصادي مبنيا على التخطيط المركزي الذي توجه الدولة من خلاله أعمال الأعوان الاقتصاديين وتأطيرها، مع تأكيد الدور القيادي للدولة في تحقيق هذه البرامج الاقتصادية والاجتماعية. وارتكز كذلك هذا التنظيم الاقتصادي العمومي والمخطط على إحداث عدد كبير من الشركات الوطنية وهي مؤسسات عمومية اقتصادية وأخرى كانت في أغلبها قد آلت إلى الدولة الوطنية بعد رحيل المستعمر. اختصت كل واحدة منها وفي شكل شبه احتكارى في تسيير فرع اقتصادي محدد على أساس التوجيهات الحكومية في مجال السياسة الاقتصادية والاجتماعية. هذا ما سمح للدولة بأن تحتل مركز أول عون اقتصادي في البلد. إن الارتكاز على الاقتصاد العمومي في تلك المرحلة ساهم فى تطور معتبر لقواعد القانون العام الاقتصادي.
المرحلة الثانية بدأت في سنة 1988 وهي تتميّز بتغيير وجهة الاقتصاد الوطني بالتخلي عن النهج الاشتراكي الذي كان يعتمد على التخطيط المركزي المباشر وتبني نظام السوق. وقد استفادت في هذه المرحلة المؤسسة العمومية العاملة في الحقل الصناعي والتجاري باستقلالية نسبية تتناسب وطبيعة التوجهات الجديدة. رغم تراجع دور الدولة وتدخلها في الاقتصاد بقي القانون العام الاقتصادي يحظى بمركز مميز في تركيبة القانون العام الجزائري.
المبحث الثاني : مصادر القانون العام الاقتصادي
إن مصادر هذا الفرع هي على وجه عام نفس مصادر الفروع القانونية الأخرى للقانون العام من مصادر رسمية وعلى رأسها الدستور والتشريع وكذلك مصادر احتياطية مثل أحكام القضاء.
وكان لهذا المصدر الأخير دورا بارزا في تشييد العديد من مفاهيم القانون العام الاقتصادي من خلال الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة الفرنسي(conseil d’Etat )، من جهة أخرى يتميز القانون العام الاقتصادي بالمكانة الخاصة للوائح التنظيمية في مصادره الداخلية المتمثلة في مختلف الاختصاصات و صلاحيات السلطات الحكومية والإدارية التي تتجسد في قرارات تنظيمية متعددة.
بالإضافة إلى هذه المصادر الداخلية يأخذ القانون العام الاقتصادي من بعض المعايير الخارجية مصدرا له.
- معلم: amina medjdoub