القسم الأول: صدر الإسلام

1/المعطيات العامة لظهور الإسلام:

مهد العرب شبه الجزيرة العربية الواقعة جنوبي قارة آسيا، يدعوها الجغرافيون عادة باسم "الجزيرة"، لان المياه تحيط بها من ثلاث جهات أساسية، ويعقد لها نهرا الفرات والعاصي عند اقترابهما في أعالي بلاد الشام حدا رابعا من المياه، ولسوء الحظ فإن أثر هذه المياه على مناخ الجزيرة قليل بسبب اتساع الرقعة واختلاف التضاريس التي تمتد جنوبا إلى شواطئ اليمن وشمالا إلى بلاد الشام و إلى أطراف عمان والبحرين والبصرة شرقا وغربا وإلى خليج العقبة وسواحل البحر الأحمر وسطح الجزيرة شديد التفاوت والقسم الأكبر فيه ذو طابع بدوي تتخلله بعض الواحات، ولقد اعتاد العرب تقسيم هذه الجزيرة إلى خمسة أقسام أساسية هي : اليمن، العروض، نجد، الحجاز، وتهامة وأغلب هذه الأقسام ذات مناخ قاري حيث شدة الحرارة وقلة تساقط المياه.

بيد أن الدراسات الحديثة –الجيولوجية والأثرية-تؤكد بما لا يدعو للشك أن الجزيرة كانت في فترات تاريخية موغلة في القدم بلادا خصبة وذات نمو ديموغرافي كبير، وتعرضت للجفاف مع مرور الزمن، مما ترتب عنه ظاهرة هجرة اعداد كبيرة من سكان البلاد العربية إلى البلدان إلى البلدان المجاورة، حيث شملت أطراف الجزيرة أولا ثم خارجها حيث الهلال الخصيب شمالا، وشواطئ اليمن جنوبا ومنها إلى شرقي إفريقيا وشمالها، ولهذا الدفع البشري إلى الأقطار المجاورة أثر كبير في تطور الأحداث كما سنرى، ومن الطبيعي أن تكون العناصر الاجتماعية الباقية قد أخذت تتأقلم بشكل تدريجي مع المعطيات الجغرافية والمناخية الجديدة، فسيطر طابع البداوة على الحياة الاجتماعية، وصارت ظاهرة عدم الاستقرار إحدى المميزات التي تميز سكان الجزيرة، ولما كانت ممارسة الزراعة في ظل هذه المعطيات غير عملية ولا تغطي أية حاجة للاستهلاك المحلي، فقد برع السكان في المبادلات التجارية، مستغلين الظروف السياسية المحيطة والموقع الاستراتيجي لخدمة مصالحهم.

ولقد برزت حاضرة مكة، كمرشح ذو أهمية بالغة في تمثيل الدور الأساسي في الوساطة التجارية التي تعدى دورها تموين احتياجات السوق المحلية إلى محاولة احتكار مسالك التجارة العالمية وقتئذ، وذلك بعد أن فشلت كل مساعيالقوة البيزنطية والساسانية في إحكام السيطرة على هذه المنافذ الاستراتيجية، وليس بمستغرب أن تحتل مكة هذه المكانة في التجارة العالمية حيث كان لها من الأهمية ما يدعم هذا الاتجاه،  فهي إلى جانب نشاطها التجاري كانت أصلا ذات نشاط ديني، ومن ثم استغلت كل ما من شأنه ان يخدم مصلحة سكانها حتى صارت حاضرة الدين والدنيا دون منازع، وباتت هذه المدينة تجسد كل الاتجاهات التي عرفتها شبه الجزيرة العربية، وتبناها سكانها، فعلى الصعيد الديني مثلا كان الحرم المكي يجسد رموز الآلهة المعقدة، حيث كان لكل قبيلة آلهتها، وكان من الطبيعي أن تكون لآلهة مكة المكانة المميزة.

ولقد أفضت عملية حج وفود القبائل العربية إلى الحرم المكي وما يتبع ذلك من مبادلات ومن صفقات إلى التفكير في وجود نظام يهيئ الظروف المناسبة للانتفاع بهذه الظاهرة الاجتماعية فكانت " الأشهر الحرم" قد وفرت للسكان بعض الأمن والاطمئنان لا في ممارسة الشعائر الدينية فحسب وإنما في المبادلات التجارية والتفاعلات الحضارية أيضا، ولا يعني هذا أن المجتمع العربي في شبه الجزيرة قد رضخ لسلطة هذه المدينة النامية و إنما نلاحظ أن طابع عدم الاستقرار الاجتماعي في الجزيرة قد ترك بصماته على الحياة الاجتماعية وأساليبها هناك فتجزأ المجتمع إلى قبائل متحالفة أحيانا ومتنافسة أحيانا أخرى قد أوقف كل محاولة لاتحاد سكان الجزيرة ،ولقد كان هذا التجزؤ أحد مظاهر الانحطاط السياسي والاقتصادي للمجتمع العربي قبل الإسلام، كما أنه كان عاملا أساسيا في بقاء سكان المنطقة على هامش الأحداث حيث كانت تتجاذبهم الأهواء، والنحل فترة زمنية غير قصيرة، وهي التي تعرف عادة بفترة الجاهلية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن مصطلح الجاهلية لا يعني بأي حال من الأحوال أنه التخلف والانحطاط ذلك أنه ثبت بما لا يدعو للشك أن العرب سكان الجزيرة عاشوا في وسط حضاري فتأثروا به وأثروا فيه وإنما المعنى الحقيقي لهذا المصطلح يتصل اتصالا أساسيا بقضايا دينية أخلاقية هي أقرب إلى المثل العليا منها إلى الجهل بالقراءة والكتابة، والحديث عن الجاهلية ومظاهرها يؤدي إلى الاهتمام بالديانة العربية وبعض المظاهر الخلقية التي سادت في المجتمع العربي قبل الإسلام، ففي الوقت الذي كانت فيه بعض العناصر تعيش على الفطرة كانت أخرى ذات عقائد وطقوس تجلها وتقدسها، كما أن هناك من كان يعتقد في الأوثان وعبادة الأصنام، وفيهم من كان قد تأثر بالجيران فتنصر أو تمجس، فجهلت العرب آلهتها وأشركت بها، وتعصبت لآلهة لا تنفع ولا تضر ولم ترض بها بديلا، ولذلك فإنه كان من الصعوبة بمكان محاولة تهذيب القوم وإرجاعهم إلى السبيل القويم، وفي ظل هذه المعطيات المتضاربة والمعقدة بُعث رجل يحمل رسالة سامية، قُدر له أن يمثل دورا هاما لا في تاريخ شبه الجزيرة العربية فحسب، وإنما في تاريخ البشرية أيضا، ذلك هو محمد بن عبد الله الذي اصطفاه ربه بشيرا ونذيرا.

2/محمد عليه الصلاة والسلام قبل الدعوة:

تؤكد كتب السيرة ومصادر التاريخ الإسلامي أن محمدا بن عبد الله قد عاش في قلب المجتمع العربي في مكة بما يحمله هذا المجتمع من متناقضات لا سبيل إلى حصرها، ومنها التطرف في الشرك بالله إلى جانب من يؤمن بوحدانيته، ومنها الغنى الفاحش إلى جانب الفقر المدقع، ومنها الظلم الاجتماعي الذي لا خلاص بعده إلا بالاعتماد على نظام جديد يغير أسس العلاقات الاجتماعية القائمة تغييرا جذريا.

وسيرة محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم-الشخصية تدل دلالة واضحة على أنه عاش في وسط فقير يعتمد اعتمادا كبيرا على الاجتهاد في الكسب لضمان العيش، حيث نشأ يتيما محروما من خدمات الأبوين وقد دعته ظروف الحياة إلى المشاركة البسيطة في الحركة التجارية التي كان ينظمها أثرياء مكة، فاكتسب من خلالها خبرة هامة وتجربة فريدة مكنته من الاطلاع على مكامن الداء في محيطه الاجتماعي المتضارب فضلا عن اكتسابه القدر الوافر من المكانة بين المتعاملين معه، لدرجة إجماع الرواة على استقامته وحسن معاملته.

ولقد لفتت شخصيته الفذة ونزاهته التامة أنظار القرشيين، ومنهم السيدة" خديجة بنت خويلد" إحدى أثرياء مكة فعرضت عليه الإشراف على تجارتها فقبل، وأدى نجاحه في المهمة إلى ربح وافر وإلى استمرار العلاقة بينه وبين موكلته في إطار من الثقة والتفاهم حتى أن محمدا -عليه السلام – لم تعترضهحواجز حين طلب يد" خديجة " للزواج.

ويرى أنه كان لقضية زواج "محمد"صلى الله عليه وسلم" من هذه السيدة الميسورة الحال أثرا بالغ الأهمية لا في تحسين ظروف حياته المادية فحسب، بل في ظروفه النفسية أيضا، حيث بات في غنى عن الكدّ من أجل متطلبات العيش، نجد صدى ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى:"ووجدك عائلا فأغنى"

والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام قد صار مسؤولا عن تجارة ورأس مال كبير، سمحت له بالتعرف على مظاهر كثيرة من العلاقات الاقتصادية القائمة في مكة وفي شبه الجزيرة العربية وقتئذ.

3/محمد-صلي الله عليه وسلم–والوحي:

من المؤكد أن انشغاله بالتجارة لم يثنه عن التفكير في أحوال سكان مكة ومن له علاقة بهم، ومما لا شك فيه أنه بفضل ما كان يتمتع به من ذكاء ونفاذ بصيرة قد أدرك الدوافع والأسباب التي كانت تتحكم في مظاهر تلك العلاقات وما أسفرت عنه من نتائج على مستوى المعاملات والعلاقات الاجتماعية.

وفي الوقت الذي كانت فيه سيرة محمد-(ص) -مثالا لشباب عصره، فإنه لم يجد الفرصة للدعوة إلى الإصلاح ومعالجة ذات البين، ولذلك فإن الروايات التاريخية تشير إلى أنه كان كثير الاعتزال والخلوة بنفسه في مكان بعيد عن أعين الناس هو" غار حراء" أحد الجبال المحيطة بمدينة مكة حيث كان ذلك المكان ملجأ له يخلو فيه بنفسه للتأمل والتفكير في خلق الله.

ولقد استمر محمد (ص) على هذا المنهج مدة غير قصيرة حتى بلغ الأربعين سنة من عمره، وإذا به يفاجأ بوحي من السماء ينبئه بأنه اختير من قبل الله ليكون رسوله إلى البشرية مبشرا ونذيرا. ولقد احتار من هول ما سمع ولم يجد بدا من إخبار زوجته "خديجة" بذلك فصدقته وشجعته على الثبات وربط الجأش لاستيعاب ما يوحى إليه والاستعداد إلى تحمل الرسالة النبيلة الملقاة على عاتقه.

وأغلب الظن أنه عليه السلام-اعتاد على تلقي ما يوحى إليه في خلوته وصار يميزه ويدركه، حتى إذا ترسخت معالم النبوة في نفسه وتشبعت بها، أخذ في إفشاء هذا السر الكامن في صدره إلى من يثق فيهم من أقارب وأصدقاء، وذلك في سرية وحذر تام طيلة ثلاث سنوات.